أ. محمد الدبعي
"الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون!".
ثلاث لمسات تعرضها هذه الآية للحقيقة الكبيرة:
اللمسة الأولى.. الحمد لله ثناء عليه، وتسبيحاً له، واعترافاً بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء.
اللمسة الثانية.. تصل الحمد والتمجيد بربوبيته سبحانه وتعالى المتمثلة بالخلق والإبداع في أضخم مجالي الوجود.. السماوات والأرض.. ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود.. الظلمات والنور.. فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك، ثم خلقه للكائنات الحية التي تملأ السموات والأرض من إنس وجن وملائكة وغيرها مما نعلم ومالا نعلم.
اللمسة الثالثة.. التعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم وتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله ينكرون ربوبيته وألوهيته فلا يؤمنون، ولا يوحدون، ولا يحمدون، بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساونهم: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون".
فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون، وآثارها الضائعة في نفوس البشر!
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله، المتفرد بالألوهية فيهما على السواء "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو العليم الحكيم!"، أي أنه الحاكم المفرد في السموات وفي الارض!
ومن مقتضيات الألوهية الخضوع للناموس الذي سنه الله لهما، وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان - رضي ذلك أم كره - يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله، لا بمشيئته هو، ولا بمشيئة أبيه وأمه، ويولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة!
تقرير هذه القاعدة الربانية في ناموس الخلق وألوهية الخالق تضرب الملحدين والمشككين في مقتل مهما بلغ كيدهم ومكرهم، فهم لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية التي فطر الناس عليها، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله، وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس، وذلك لأن بعض النفوس تفسد فطرتها، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية.
ولكن هذه النفوس المعطلة الفطرة ستحاول إفساد ذوي الفطرة السليمة وحرف مسارها عن الله كليا بإقناعها للالتحاق بقافلة الإلحاد، أو بإرباك تدينها بتحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر، وطرده من واقع الحياة، مع إيهامهم أنه يمكنهم أن يظلوا مؤمنين بالله إن هم تقبلوا أرباباً أخرى تشرع لحياتهم ودنياهم عن طريق تخدير الشعوب بفلسفة نابعة من صميم عقيدتها.
كيف يكون ذلك؟؟؟
يكون كما تراه أنت اليوم وتشاهده بأم عينيك، حيث نجحوا في تفريق أمة الإسلام إلى طوائف وطرائق شتى ابتدأتها بعقيدة الخوارج والاعتزال (المعتزلة)، التي مالبثت أن تحورت إلى طوائف شيعية، ثم نشات نظرية الإحلال التي تحولت إلى طرق صوفية تختلف جميعها فيما بينها في ميلها عن - أو قربها من الإسلام بين شرك وكفر ودخن ومقاربة من التدين الاسلامي الصحيح. ديدن هذه الطوائف (المتصوفة والشيعية والهاشميون كذلك) ومحور تدينها حب آل البيت، فهو ركيزة سلوكهم وممارساتهم الدينية الطقوسية بكل انحرافاتها ونشوزها. فربطوا حب الدين بحب آل البيت، ثم تطور محور الإرتكاز من آل البيت ككلمة جامعة إلى التخصيص والتشخيص في أفراد آل البيت: علي، فاطمة، الحسين وزينب، فصار هناك شيعة علي، والفاطميون والحسينيون، والزينبيات، مع حذف شخص الحسن من تسمية آل البيت.
وصار الناس بذلك يتقاتلون ويقتلون تحت نداءات يا لثارات الحسين، وإيحاءات ومباركات "رب الأرباب" علي بن أبي طالب، "الإله الأكبر" يوم القيامة كما يزعمون.
وبعد أن نجحوا في تثبيت ذلك كله على مر قرون،
إنتقلوا إلى البقية المتبقية من أهل السنة فرضخوا رؤسهم بحجارة الإلتزام الصحيح والمتفلت، والمقتدين بسنة النبي (ص) والمتفلتين منها، والسلفية والمبتدعة، فصار حي السنة حيين: السلفية والحركة الإسلامية، ثم صار الحيان عدة أحياء: المدخلية، الجامية، السرورية، الإخوان المسلمون، ثم صاروا أحزابا وجماعات… وهكذا.
وفي زمننا المعاصر عمد فاسدوا الفطرة إلى بث بذور الإلحاد في طوائف الإسلام والدعوة إليها بكل جرأة ووقاحة، حتى أن الأنظمة الحاكمة صارت تحارب الإسلام صراحة تحت مسميات مكافحة الإرهاب، والجماعات المتطرفة، والإسلام السياسي، ويقصدون بها جماعة الإخوان المسلمين.
وتطور الأمر فأصبحت تنشر تصورات وقيماً إلحادية كمن يرفضون السنة ويحتكمون إلى القرآن، وهم من يسمون بالقرآنيين (ولا ننكر انه يجب بقوة مراجعة وتشذيب وتنقيح السنة المطهرة من كل مالحق بها من تصورات واجتهادات بشرية خاطئة بإسمها)، وكذلك تصورات مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية، وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام الحكومية المملوكة للدولة أو للقطاع الخاص، والكتاب والمثقفين ابو ريالين لتدمير هذه القيم، وسحق الأدبيات والمسلمات باسم التطور والتحضر، إلى أن قادوا الأمة إلى السفور والتبرج والعري بأساليب العفن الفني، حتى وصل الأمر بهم إلى استباحة مكة والمدينة المنورة.
"ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
(مقدمة الموضوع مقتبسة من تفسير الظلال للشهيد قطب بتصرف واختصارات وإضافات).