د.عبدالغني علي السبئي
الأحد 26 يوليو 2020 الساعة 09:27
تدارك مسيرة التنمية المستدامة بمفهومها الشامل، التكاملي ضرورة ملحة لتقدم الدول العربية
تنعكس تحديات التنمية ومستقبل العمل في الدول العربية على الجدل المحتدم داخل الأدبيات الاقتصادية والسياسية حول معالم النموذج الذي يمكنه أن يساعد في تحقيق تنمية مستدامة، والسبيل إلى التكامل بين السياسات الاجتماعية والاقتصادية بعد أن أصبح من المؤكد أن تحقيق النمو في حد ذاته لا يؤدي بالضرورة إلى تنمية. وتحيط بالوضع الاقتصادي في البلدان العربية خلال العام الحالي عدة مخاطر، حيث تواجه أسواق النفط العالمية فائضا بسبب توارد إمدادات النفط الصخري الأميركي، ما يضطر معه العديد من البلدان النفطية إلى الاقتراض، وعدم القدرة على مجابهة مشكلات اقتصادية واجتماعية تهدد الاستقرار وتضع الأمن على حافة الهاوية. تشكل هذه العوامل تحديات كبيرة وعوامل عدم استقرار، تفرض معالجة جذور المشكلات البنيوية وإصلاح جميع الأخطاء الخاصة بصياغة تنمية مستدامة. غير أن الدراسات الاقتصادية تبين أن إمكانية الخروج من مأزق البطالة، وتأهيل النشاط غير النظامي، وإرساء تنمية مستدامة ليست مستحيلة، حيث استطاعت بلدان التجربة الأسيوية تحقيقها في فترة وجيزة. ففي ستينات القرن الماضي، كان حجم اقتصاد كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة مثلا بحجم اقتصاد مصر أو أقل منه بقليل، علاوة على أنها كانت خارجة من استعمار كبّل قدراتها واستغلّ مواردها، أو أنهكتها حروب أهلية مدمرة. فكوريا الجنوبية كانت من دون موارد طبيعية وبنياتها التحتية شبه منعدمة، كما كانت تعاني من نسبة تمدرس متدنية في العالم، حيث كان منذ ستين سنة نحو 80 بالمئة من الكوريين غير متعلمين. أما الآن، فهي تنفق حوالي 20 بالمئة من ميزانيتها العامة على التعليم، وأصبحت دولة رائدة. ولم يكن أحد ينتظر أن تتحول هذه البلدان في فترة قصيرة إلى نماذج في التقدم والتطور. ومن ثم، لا يمكن فهم سر نجاح هذه التجربة وغيرها من التجارب الآسيوية الناجحة من دون نهج جديد في التنمية المستدامة. الواقع العربي تحسن في مؤشر التنمية اعتمادا على مؤشرات التنمية البشرية الأربعة التقليدية، وهي: معدل الحياة العام، ومستوى التعليم، ومتوسط الدخل، ثم الحفاظ على البيئة، هناك إنجازات تحققت من دون شك وبدرجات متفاوتة في التجربة العربية بكل هذه المؤشرات. وبناء على أرقام صندوق النقد الدولي وبعض إحصائيات المؤسسات الدولية، فإن أغلب الدول العربية التي حققت ترتيبا متقدما تنتمي إلى دول الخليج وهي قليلة السكان، حيث تساعد عوائد النفط في الرفع من مؤشرات التنمية، ويتميز دخل الفرد فيها بمستوى عال جدا كما هو حال الإمارات والسعودية وقطر والكويت والبحرين وعمان. لكن الموارد المالية ليست العنصر الوحيد في تحقيق التنمية. ولا يزال دخل الفرد في دول عربية عديدة وفق تقرير صندوق النقد الدولي للعام 2019 بحدود 3500 دولار ويكون أقل من ذلك في دول أخرى إذ يصل في السودان مثلا إلى 720 دولارا. فيما معدل العمر في البلدان العربية يتراوح بين 65 سنة و77 سنة، حيث لا يوجد بحسب منظمة الصحة العالمية أي بلد عربي ضمن أول 20 دولة من المتوقع أن يعيش سكانها عمرا أطول، والتي تربعت اليابان على رأسها بنحو 83.7 سنة، تلتها سويسرا 83.4 سنة ثم سنغافورة 83.1 سنة. أما معدلات التعليم فما زالت تنذر بأن 20 بالمئة من السكان تعاني من الأمية. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإنه وحتى عام 2024 يتوقع أن يكون هناك 49 مليون أمي في العالم العربي، من بينهم حوالي 15.5 مليون ذكر و33.5 مليون أنثى، كما يبلغ منهم عدد الأميين الشباب حوالي 6.5 مليون شخص، وهو رقم مرتفع جدا، ما عدا في بلدان الخليج إذ استطاعت السعودية الرفع من أعداد الملتحقين بالتعليم بنسب كبيرة وناجحة، بينما يضع مؤشر الجودة الدولي دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر فقط بمقياس اختبارات نظام “بيزا” الدولي. مفترق طرق هشاشة في النظام التعليمي يشكو التعليم في الدول العربية من قلة الجودة في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية، ولهذا السبب يواجه 74 مليون شاب عربي مستقبلا مضطربا، حيث يعاني 22 مليونا من خريجي الجامعات من البطالة، كما يصل عدد الشباب الذين يعانون من البطالة حاليا إلى 52 مليون عاطل، ينضاف إليهم 22 مليونا تحت سن 15 عاما، انقطعوا عن الدراسة. وإجمالا، ارتفع معدل بطالة الشباب في المنطقة العربية من 27 بالمئة في 2017 إلى 30 بالمئة في عام 2019. كما يؤثر ارتفاع المديونية سلبا في قدرة القطاع العمومي على توفير فرص عمل وعجزه عن استيعاب طالبي الوظائف الجدد ناهيك عن معضلة العاطلين السابقين، فالقطاع العام يظل هو صاحب العمل الأكبر في العديد من الدول العربية، حيث يستقطب من 65 إلى 80 بالمئة من إجمالي العمالة الرسمية في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن وتونس. وبإيجاز شديد، لا يزال هناك نحو أكثر من 80 مليون عربي يعيشون تحت عتبة الفقر، وأكثر من 20 مليونا يعانون من نقص التغذية، فيما تهميش المرأة وعدم تمكينها من حقوقها لا يزال قائما، ما يمكن أن يفرز توترات اجتماعية عنيفة في ظل خيبة الأمل تجاه فشل النموذج التنموي الحالي. السؤال الذي يطرح نفسه، هو أن المرحلة الحالية من الثورة الصناعية الرابعة تضيف أعباء جديدة، حيث قلبت العديد من موازين المؤشرات التقليدية في التنمية، وبالتالي إن اتجاه التغيير ليس هو المشكلة، لكنها تكمن في سرعة وتيرته، مما يفرض على البلدان العربية اكتساب القدرة على التكيف والسيطرة على مجتمع المعرفة. يبدأ ذلك بطرح التساؤل على النماذج التنموية المعتمدة في أغلب البلدان العربية، فهناك ثلاثة اتجاهات، يطالب أولها بتخلي الدولة عن مبدأ التدخل والرعاية لصالح نموذج السوق وضرورة الانفتاح السريع والخصخصة، فيما يشدد الاتجاه الثاني بعد الأزمة المالية في عام 2008 على الموازنة بين القطاع العام والقطاع الخاص مع إعادة تدخل الدولة لإعادة التوازن من خلال الحفاظ على القطاعات الحيوية، فضلا عن توسيع نطاق الشراكة ليشمل شركاء آخرين بالإضافة إلى السوق والدولة، ومنها على سبيل المثال مكونات المجتمع المدني. الخروج من مأزق البطالة وتأهيل النشاط غير النظامي وإرساء تنمية مستدامة ليست مستحيلة حيث استطاعت بلدان التجربة الأسيوية تحقيقها في فترة وجيزة
واقع الحال أن كل هذه النماذج أبانت عن محدوديتها، وأصبحت بعض الدول العربية متخصصة بتصدير مواردها البشرية إلى جانب تخصصها بتصدير المواد الأولية، وهي تعيد إنتاج سلبيات العالم الغربي لأن العولمة الحالية مرتبطة بثورة صناعية رابعة تعتمد على تكنولوجيا الهندسة الوراثية والنانوتكنولوجيا والخوارزميات الجديدة. ومن ثمّ، إن خطأ الأنظمة الاقتصادية العمومية التي انتُهجت في ستينات وسبعينات القرن الماضي تجلت في التضييق على المبادرات الفردية بحجة أسبقية الجماعة على الفرد والمساواة في الوسائل بين الأفراد. أما في بعض مجتمعاتنا التي اعتمدت نموذج التنافس الاقتصادي الليبرالي، ظلت حرية الأغلبية ضيقة جدا في ظل أقلية تحظى بالثروة والنفوذ والحرية، ولا يمكن أن نسمي ذلك حرية، حيث أسفر عن فشل في أداء المهام من قبل كل نماذج البيروقراطية الإدارية والسياسية أو النماذج النيوليبرالية في تعدد صيغها في العالم العربي والإسلامي. فمن ناحية، هناك عجز واضح في أداء المؤسسات العامة العربية في الانتقال من دولة الريع إلى دولة الإنتاج، وفي الرفع من الطاقات الإنتاجية المتاحة وتحقيق العدالة الاجتماعية، ناهيك عن عجزها في الحد من ارتفاع مديونية الدولة، والعجز في ميزان المدفوعات. ومن ناحية أخرى، وقعت المحاولات الإصلاحية الليبرالية تحت ضغوط جماعات المصالح، ولم تستطيع مؤسسات القطاع الخاص بلورة فاعلية إنتاجية واقتصادية وتكريس مبدأ المحاسبة من قبل السوق، بل سادت فيها آفة الرشوة والمحسوبية والزبونية وغياب قواعد المنافسة الشريفة. وبالمحصلة، سؤال الخصخصة أو لا خصخصة أصبح سؤالا عقيما وسقيما، إذ لم يتحقق الشيء الكثير بالرغم من خصخصة العديد من الشركات العمومية، وما زالت بعض الدول العربية تحت الخط الوسطي العالمي، فيما أغلب الباقي مصنف في موقع أدنى من الخط الوسطي. الحلقة المفقودة الطموح إلى مستقبل أفضل غير خاف أنه لن يكون ممكنا تجاوز عتبة التخلف ما لم يتم توجيه الجهود لتدارك مسيرة التصنيع المتوقفة أو ما يسمى في أدبيات علم الاجتماع الاقتصادي بتعميق مسار التصنيع المتأخر منذ زمن فرض سياسات التقويم الهيكلي، إذ فرض على أغلب الدول العربية أن تُجريَ خفضا لأسعار صرف عملاتها تحت حجة أن ذلك سيمكنها من التصدير. لكن اتضح أن الغالبية لم تستطع أن تصدر شيئا، وأدى خفض سعر الصرف فيها إلى فرض حالة شد حزام وتقشف في الإنفاق العمومي، ما أسهم في نشوء حالات انكماش كثيرة ونمو بطيئ جدا، كانت سببا في اندلاع موجات الربيع العربي. أيّ مجتمع يريد أن يتطور وأن يحقق جزءا من التقدم، عليه أن يتحاشى تكرار التجارب الفاشلة والأخطاء الكارثية، من ذلك أن الدول الكبرى نفسها التي فرضت خيار التصحيح الهيكلي على الدول النامية، وبيع القطاع العام وتصفيته وتراجع دور الدولة في العديد من القطاعات بعد ارتفاع دعوات من قبيل “دعوا القطاع العام يمُتْ”، هي نفسها التي التجأت إلى مؤسسات الرعاية الدولية لكي تفتح خزائنها لإنقاذ مؤسساتها النقدية من خسائر كارثية تسببت فيها المضاربات والفقاعات المالية والعقارية. فهل المخططات والبرامج الحكومية التي كانت محل سخرية من قبل كهنوت السوق، تحولت بقدرة قادر إلى برامج إنقاذية؟ ومن ثمّ فإن سياسات الانفتاح الكلي على الخارج لا تجدي نفعا إذا كانت دولنا ليس لها ما تصدره إلى الخارج. إن وضعها سيكون شبيها بذلك التلميذ المتدرب الذي يُطلب منه أن يمارس دور الإدارة، ما يجعل الطلب غير معقول تماما. كذلك الأمر إذا طُلب من البلدان النامية التي دخلت للتوّ في العولمة أن تقوم بفتح أسواقها وأسواقها المالية بشكل تام، وتوهّمت بأن ذلك كفيل بنقلها إلى مصاف الدول الصناعية اقتصاديا، ستكون قد أخطأت حساباتها في دراسة وفهم تاريخ الاقتصاد العالمي. الأمر شبيه بمن يريد في قفزة واحدة دخول الأدغال دون أن يتعلم بداية كيفية الدخول إلى الغابة. فالمثل الصيني يقول “علّمه كيف يصطاد، بدل أن تعطيه كل يوم سمكة”. وتمثل هذه النقطة أحد الدروس المستفادة في تجربة التنمية الآسيوية، حيث تأخذ السياسات الحمائية والوقائية المقدمة للصناعات المحلية معناها عند ربطها بإنجازات وأهداف تنموية وتصديرية محددة، خاصة العمل على رفع الإنتاجية وزيادة القدرة التنافسية للصناعات المحلية. إقامة القاعدة التكنولوجية المحلية بدأ في التجربة الآسيوية الصاعدة من خلال التعلم والتدرب على إعادة إنتاج مواد موجودة أصلا في السوق العالمية ابتداء من الإبرة وصولا إلى الملابس الجاهزة، إذ عوض أن تتجه بلدان التجربة الآسيوية إلى عملية استيراد متواترة لحاجياتها من آليات تجهيز ومكنات، قامت بشرائها من السوق الدولية وعمدت إلى تفكيكها وإعادة تركيبها في مراكز تدريب مهني وتقني مراكمة بذلك قدرا من التجربة والمعرفة. وبالتالي باتت قادرة على إعادة تصنيعها ثم إبدال وارداتها. تعميق مسار التصنيع بالإضافة يجب تشجيع قطاع ثالث يقع بين القطاع العام والقطاع الخاص، لكنه لا يضحّي بدور الدولة، كما أن هذه الأخيرة لا تحل محل القطاع الخاص لكن تدعمه لأن أمراض القطاع العام موجودة لدى القطاع الخاص، فعندما تفسد الدولة، يفسد القطاع الخاص. وعندما يعجز هذا الأخير تقوم الدولة بالتوجيه والمراقبة والتحفيز، ووضع السياسات والمناخ اللذين يساعدان على الاستثمار والإنتاجية وأدوات التنمية. ومن ثمّ فك عقدة “التصنيع المتأخر” التي بدأت برفض استنساخ نموذج التجربة السوفييتية والتجربة الليبرالية، بل صاغت هذه التجربة نموذجا مغايرا في التنمية يقوم على بناء تصنيع المواد الأولية التي تحتاجها الدولة انطلاقا من الصلب والإسمنت والكيمياويات والحديد كمكونات ضرورية لدخول عتبة التصنيع بنقلها عندها. بطبيعة الحال، إن المتأمل في التجربة الاقتصادية الآسيوية الناجحة، يعي بأن بناء اقتصاد وطني انطلق من استراتيجية الإحلال محل الواردات لسدّ الحاجيات المحلية، وبعده جاءت مرحلة إنتاج سلع ترسملية (رأسمالية) كخطوة ثانية، حيث لعبت الدولة دور المحفز التاريخي في كلا المرحلتين سواء في قيادة التنمية الاقتصادية أو في مجال توجيه التطوير والبحث العلمي، والاستثمار في الرأسمال البشري. ومن المعلوم بأن الحلقة المفقودة في التنمية العربية تكمن في معالجة عتبة “التصنيع المتأخر”، عبر استعادة مكونات الصناعات الجنينية التي بدأت مع الحصول على الاستقلال، وتوقفت قبل بلوغ مرحلة إنتاج السلع التجهيزية، بينما كوريا وإسبانيا وتايوان والصين والهند وسنغافورة وجنوب أفريقيا استمرت في إكمال المشوار. كما أن تعاون الدول العربية بشكل أفضل يتوفر على مزايا كثيرة، فالمجهودات الجماعية والمشتركة تنجز ما لا تستطيع دولة بمفردها القيام به، لذلك فالمطلوب أن تنتهج الدول العربية سياسة شراكة اقتصادية ونقدية وتجارية مجتمعة تسهل عليها مجابهة الكثير من التحديات |
أخترنا لكم
الأكثر زيارة
|