قد تبحثُ عن فرصة العمر في وظيفة، منزل، او رحلة، لكن ان تتشبث بفرصة الخروج من وطنك نحو المجهول فهذا يعني انك لا ترجو فرصة العمر، بل ترجو العمر ذاته، وبالطبع مع وطن محاصر بالبحر والنار، وبحدود سياسية لا أنسنة فيها، فان قرار السفر يعد مجازفة بالمصير.
# تذاكر VIB #
منذ مارس وحتى اغسطس 2015 كان الطيران المدني في اليمن معطلا بسبب استمرار القصف على مطار صنعاء الدولي، كانت الطائرة الوحيدة التي يسمح لها بالهبوط والمغادرة هي تلك التابعة لمنظمة الاغاثة الدولية، كانت الرحلة الوحيدة من والى الاردن، تأتي محملة بمواد الاغاثة وتعود خالية إلا من اشخاص يحملون وثائق تخولهم مغادرة اليمن كالدبلوماسيين اوالاجانب، اوطلاب الجامعة الحاصلين على تأشيرات ابتعاثهم، اواشخاص لديهم دعوات من جهات رسمية، الرحلة التي لم تكن تتجاوز تكلفتها500$ (خمسمئة دولار) اصبحت بعد الحرب تكلف 1500$ (الف وخمسمئة دولار).
كمواطنة لم يهمني مبرر تضخم سعر التذكرة ولم اهتم لمعرفته بقدر ما اهمني توفير هذا المبلغ كي اسافر وابحث عن فرصة عمل بعد ان فقدت عملي كغيري من الاعلاميين خصوصا والمواطنين عموما، فبعد ستة اشهر من الحرب وجدتني واسرتي قد انفقنا مدخراتنا كاملة، حتى سيارة اخي الاجرة التي كانت مصدر دخلنا الوحيد توقفت عن الحركة لانعدام مادة البنزين، على كل حال انتهى همُ سعر التذكرة حين ادركت انه لم يكن لدي اي وثيقة تخولني للسفر جوا بطائرة الاغاثة تلك.
# السفر برا #
كنت واخي محظوظين بحصولنا على تأشيرات لدخول سلطنة عمان (المجاورة لليمن من الجهة الغربية)، كانت مدة فعالية التأشيرة ثلاثة اشهر، لكني ودعت اهلي واشيائي قبل اسبوع واحد فقط من انتهائها، كان قرارا صعبا.
رغم سلامة الطريق كما سمعنا إلا اننا كنا ندرك انه سيكون طويلا وخطرا، هناك 28 (ثمانية وعشرون) ساعة تفصلنا في صنعاء عن الحدود العمانية، وهناك مناطق اشتباكات عسكرية في مآرب، وهناك تنظيم القاعدة الذي بات اسما يرعب الشياطين.
# مآرب #
ما ان نصل محافظة مآرب حتى تأمر نقطة تفتيش تابعة لانصار الله هناك بعودتنا الى صنعاء بسبب الاشتباكات العسكرية وعدم امكانية التحقق من هوية المسافرين، 12 ساعة كنا نقضيها في طريق الذهاب والعودة اصابتنا بالحنق الشديد.
خمسون مسافر بعضهم يقصد الوصول لمآرب وبعضهم يريد الوصول الى المحافظات الجنوبية كسيئون والمكلا، ولان معظمهم من الرجال فقد كنا نشهد تحقيقا مطولا معهم حول السبب والغاية من السفر (هذا التحقيق شهدناه في كل نقاط التفتيش حتى في تلك التي داخل صنعاء).
في اليوم التالي وقد اُمرنا بالعودة من ذات النقطة شعرت وأننا نضيع اوقات لا تحتمل التضييع، كنت اخشى ان تنتهي مدة فعالية التأشيرة ونحن نذرع طريق صنعاء - مارب.
حاولت ان افهم من الشباب الذين يتولون ادارة هذه النقطة (بالطبع لم يكونو يرتدون زيا عسكريا لكننا كنا في كل النقاط نعرف انها تابعة لانصار الله من خلال الشعار الذي طبع على اسلحة الشباب فيها) حاولت ان افهم منهم سبب اعادتنا الى صنعاء وقد اُجري تحقيق مطول وتم التحري من الاسماء والهويات، ثم ماذنب النساء والعائلات ان يعاقبن بالعودة اذا كان المقصود اعادة الرجال فقط؟
أجاب المسؤول عن تلك النقطة بان القصد ليس معاقبتنا بل حمايتنا فخلف الجبل معركة قد تستمر حتى الصباح(حينها كانت الساعة 1 بعد منتصف الليل) الامر الاخر انه وحتى اذ لم يكن هناك معارك فسيعيدنا لان الاوامر تقتضي بعدم السماح للرجال والشباب الذين لايمتلكون وثائق تثبت ارتباطهم باعمال معروفة من الدخول لمآرب خشية تجنيدهم ضد انصار الله بتمويل سعودي.
اقترحت عليه ان تنطلق الحافلة بالمرخص لهم ويعود الشباب الى صنعاء مع حافلة عائدة او مسافر مار بالطريق خصوصا وانهم لايمانعون، فاجأني بانهم كانو يفعلون هذا سابقا ولانهم لا يستطيعون التواصل مع نقاط التفتيش في صنعاء فقد كان الرجال يعلقون هناك جراء التشديدات الامنية فلا يُسمح لهم بدخول العاصمة خشية ان يكونو دواعش.
# شر البلية ما يضحك #
رافقني الصداع في سفري هذا، فكنت اسلي نفسي بتذكر بعض الطرائف التي نواجهها بنقاط التفتيش، فهي السبب الوحيد الذي كان يكسر الصمت، وخصوصا نقطة تفتيش مآرب الاولى، فبعد التحقيق المطول تم اخذ هويات الرجال لقرابة نصف ساعة، وعند عودة الشاب الذي يحمل الهويات توقعنا الافراج والسماح لنا بمواصلة طريقنا، غير انه بدأ ينادي الاسماء اسماً اسماً وحين يأتي صاحب الهوية لم يكن يستلم هويته إلا بعد ان يقسم يمينا بالله العلي العظيم انه ليس داعشيا وانه لن يخون الوطن.
بعد انتهاء الرجال الاربعون من اداء القسم خرج الشاب من الحافلة بهدوء وقال للسائق: ارجع صنعاء !!!
# رسالة من السماء #
في اليوم الثالث انطلقنا صباحا كأخر محاولة عندما وصلنا الى نقطة تفتيش مآرب العنيدة اخبرنا السائق الساخط بان نردد: (وجعلنا من ابين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لايبصرون) قال: ان كنتم اولاد حلال فالله سيوفقنا لنعبر بكم من هذه النقطة بنت الكلب.
كنت احدث نفسي: ربما هي رسالة من السماء، بألا اسافر، بألا اترك اهلي، لا اترك وطني وان كان وطني ذاته يحتاج لوطن، اغمضت عيني ورجوت الله ان يحسم هذا الامر في نفسي قبل ان يحسمه مع نقطة التفتيش، فان عادت الحافلة لصنعاء هذه المرة فهي الثالثة والثابتة وساعتبرها اشارة من الله بان السفر ليس قدري.
# صحراء الربع الخالي #
لم تكن الثالثة ثابتة، فقد اجتزنا نقطة التفتيش بيسر فاق توقعنا، وبعد قرابة الساعتين بالتوغل في اراضي مآرب شعرنا بالارض تهتز تحت اقدامنا، لم نرى شيء لكن تصورنا دمارا كالذي شهدناه في صنعاء، لا طيران يقصف هنا (في ذلك الحين) لكن اصوات الاسلحة المستخدمة تعكس مدى ثقلها، لم تكن الاسلحة العادية لتحدث كل هذا الارتجاج.
اجبرتنا نقطة تفتيش لابناء المحافظة (لم يكن بها شعار انصار الله ولا تنظيم القاعدة كما سنرى لاحقا) على سلوك طريق اخر بعيد عن منطقة الاشتباك، وانا ارى لاول مرة جمال النخيل والبيوت الطينية في مآرب غضبت كثيرا من هذه الحرب.
صحراء الربع الخالي التي درسنا عنها في المرحلة الابتدائية بانها ثاني اكبر صحراء في العالم، غصنا في الجانب اليمني منها قرابة 6 (ست) ساعات، طريق طويل لا يحاذيه من كل الاتجاهات وعلى امتداد البصر غير الرمل، حتى الجبال ليست موجودة، فقط الرمل وهذا الطريق الاسفلتي الممتد حتى الاختفاء، لا اخفيكم بمدى الضعف والهزل البشري الذي شعرت به في حضرة الصحراء.
في وسط طريقنا بالصحراء وجدنا نقطة تفتيش عسكرية، يظهر ذلك من الزي العسكري الذي يرتديه الجنود في تلك المنطقة واسمها (العبر) توقف السائق للصلاة والاستراحة نصف ساعة، كان هناك نزلا للمسافرين، محطة وقود، عيادة صغيرة، ورشة لاصلاح السيارات، بقالة كبيرة، وسيارات وجنود تابعين لحرس الحدود السعودي، علمت من السائق ان معبر منطقة مفصلية بين السعودية واليمن وهنا البقالة والمصلى الوحيدين في هذه الصحراء، هذه المنطقة انشئت لخدمة المسافرين وحرس حدود الدولتين معا.
# القاعدة #
كانت الصحراء خلفنا بساعات والظلام قد حل، وامامنا نقطة تفتيش عليها شعار القاعدة، اسدلت الخمار على وجهي، ورددنا جميعا شهادة ان لا اله الا الله محمدا رسول الله، القى الشاب الملثم التحية وطلب من السائق إطفاء المسجلة التي تبعث انغاما موسيقية بصوت هادئ نكاد لانسمعها، اطفأها السائق فورا وبرر انها تعينه على ألا ينام وهو يقود كل هذه المسافة، رد عليه الشاب بان القرآن الكريم يمكن ان يعينه، وان الاغاني حرام لانها تقسي القلب.
- اهناك قسوة اشد بعد اعتماد طريقة الذبح في قتل الانسان؟!! سؤال طرحته ذاكرتي بعفوية لكن بالطبع ليس جهارا.
كان الشاب يتنقل بين المسافرين لرؤية هوياتهم ويسألهم اسئلة عميقة بصوت ثابت واضح، ربما كانت اسئلته سطحية في نظر الجميع لكني وكصحفية علمت ان الشاب الذي يبدو صغيرا قد تلقى تدريبا مكثفا، هذه المرة لم يكن التحقيق عن سبب السفر او الجهة المقصودة، الاسئلة طرحت على السائق الذي حاول كعادته ألا يتورط وكأنه لا يريد ان يكون سببا في معلومة قد تُستغل في الصراع فكانت معظم اجابته لا اعلم، لم الاحظ، لم اركز، ثم اعيد طرحها بصياغات مختلفة على المسافرين، هل نزل مسافرون في مناطق سابقة؟ كم عددهم؟ كم يبلغون من العمر؟ ماذا كانو يرتدون؟ ماذا كانو يحملون؟ كم عدد نقاط التفتيش التي مررتم بها؟ ما الاسئلة التي طرحت عليكم؟ هل كانو جنود عسكريين ام مجندي انصار الله وجماعات اخرى؟
بعد ان انهى جولته بيننا نزل متمنيا لنا وصولا سالما، بالطبع تحركنا مسرعين وعلى انغام الموسيقى مجددا.
# فلسفة مهاجر #
في السابعة صباحا كان وصولنا، بقي 4 (اربع) ساعات لاجتياز هذه الجبال الخضراء بسيارة خاصة وندخل السلطنة الكريمة، اصر اقرباؤنا ان نرتاح في البيت قبل المتابعة، كانو قلقين علينا ويطرحون السؤال تلو السؤال: هل تعرفون احد يستقبلكم هناك؟ هل ستحضون بفرصة عمل؟ كيف ستأكلون؟
كيف سنأكل؟؟؟ ربما هذا سبب سفرنا، حقيقة انه سؤال يختصر كل المعاناة.
الرازق هو الله في كل مكان، لكن على الانسان ان يسعى، فالله الكريم وان كان يرزق الطير طعامه، لكن لا ينثره امامه.